الأحد، 8 أبريل 2012

إذا أردت قتل فكرة.. كررها برتابة

أحمد أبورتيمة

أفضل وسيلة لقتل فكرة ناجحة ليس أن تحاربها، بل أن تدعها تتكرر برتابة دون تجديد..

محاربة الفكرة يستفز المخزون الإيماني لدى أتباعها للدفاع عنها فتقوى، لكن تكرارها برتابة يفقدها روحها، ويفقد أتباعها الإيمان بها فتموت.

تكون الفكرة قويةً وناجحةً ومبدعةً فيغري نجاحها الآخرين بتقليدها، لكنهم حين يفعلون ذلك لا ينتبهون إلى أن سر نجاحها لا يكمن في ذاتها بقدر ما يكمن في كونها جديدةً فيفاجئون بأن هذه الفكرة التي كانت براقةً وجذابةً باتت باهتةً ومملةً وعاجزةً عن تحقيق أهدافها، ولو فطنوا إلى سنن الكون لعلموا أن الجديد لا يظل جديداً بل يصير قديماً وبالياً، وأن ما تحقق أول مرة لن يتحقق بعد ذلك إلا بالتجديد والتطوير.

ثمة شواهد عديدة أغلبها من واقعنا الفلسطيني هي التي دفعتني لإثارة هذه الفكرة من أجل خلق ثقافة تؤمن بالإبداع المتواصل وتتحرر من أسلوب النسخ واللصق الذي بات هو ديدن الأكثرين دون أن يتفطنوا إلى أن هذه الثقافة هي سبب تأخر واقعنا وعجزنا عن تحقيق أهدافنا رغم ما نبذله من جهود مضنية..

من أمثلة ذلك قوافل كسر الحصار عن غزة..فحين بدأت هذه الفكرة في أول سنوات الحصار كانت فكرةً قويةً واستطاعت خلق أصداء إعلامية هائلة خدمت القضية الفلسطينية، وحين دخلت قافلة شريان الحياة الأولى إلى قطاع غزة كانت كل وسائل الإعلام تركز أنظارها تجاه الحدث وتفرد له مساحات واسعةً من التغطية..لكن الواقع اليوم هو أن أحداً لم يعد يهتم بمثل هذه القوافل رغم نبل الغاية التي تنظم من أجلها، فبتنا نسمع عن قوافل تاسعة وعاشرة دون أن نجد في هذا الحدث ما يجذبنا، حتى سكان غزة أنفسهم وهم المقصودون بهذا الدعم لم يعودوا يهتموا بهذا الحدث، وربما تدخل القوافل وتخرج دون أن يعلم بذلك أكثر سكان غزة، والسبب في ذلك كما هو واضح أن الفكرة باتت تقليديةً روتينيةً مفتقدةً إلى الجاذبية، والحاجة باتت ملحةً للبحث في وسائل إبداعية جديدة لتحقيق أهداف هذه القوافل، أو على الأقل تطوير الفكرة القائمة وإخراجها عن نمطها التقليدي..

مثال آخر هو المهرجانات التي تنظمها الفصائل في ذكرى انطلاقتها. أتذكر قبل عشرة أعوام من الآن حين كانت تحين ذكرى انطلاقات الفصائل كان أعضاؤها وأنصارها ينظرون إلى تلك المناسبة وكأنه يوم عيد، ويتلهفون للمشاركة والاحتفال، لكن مهرجانات اليوم فقدت تلك الجاذبية التي كانت تتمتع بها.صحيح أنها لا تزال محافظةً على مستوىً جيد من الحضور، لكن مرد هذا الحضور هو الانتماء الحزبي لعناصر الحركة أكثر من كونه جاذبية الفكرة، وهو حضور مهدد إن ظلت الفكرة دون تجديد وإبداع...

مثال ثالث هو إضراب الأسير خضر عدنان عن الطعام فقد كانت خطوةً شجاعةً وإبداعيةً نجح الأسير من خلالها في فرض إرادته على المحتل الصهيوني، ونجح في لفت أنظار العالم إلى قضية الأسرى العادلة، لكن الأسيرة هناء شلبي -جزاها الله خيراً على جهادها العظيم- لم تنجح بنفس القدر في إضرابها عن الطعام، وما ذلك إلا لأنها أعادت إنتاج نفس الفكرة دون تجديد، وهذا التكرار الحرفي يستفز الطرف المقابل إلى الحيطة والحذر من تقديم تنازل آخر، فليس من المتوقع أن يعطيك الاحتلال دائماً ما تريده وهو يعلم أن هذا النجاح المتكرر سيغري المزيد باتباع نفس الخطوة مما سيشكل تهديداً لقدرته الردعية..

مثال رابع هو الثورات العربية، فنجاح الشعبين التونسي والمصري في إسقاط رئيسيهما في أقل من شهر لا يعني أن نفس التجربة ستتكرر بنفس الحرفية في أي بلد آخر، فلكل بلد اعتباراته وخصوصياته، وحين تتوقع الشعوب الأخرى أن ما حدث في تونس سيتكرر بحرفيته عندها فإن الواقع سيصيبها بالإحباط وربما الفشل حين يتبين لها خلاف ذلك..

وقد بلغت سطحية التفكير بفريق من الناس أن يقولوا إن كلاً من بن علي ومبارك رحلوا بعد إلقاء ثلاثة خطابات، وهذا يعني أن بشار الأسد سيرحل بعد ثلاثة خطابات، وكان قد ألقى حينها خطابين، وهذا تبسيط مخل وساذج لطبيعة الحياة، فكل ثورة هي نسيج وحدها، وكل مجتمع له من الظروف والاعتبارات ما لا يمكن تكراره بنفس الحرفية في أي مجتمع آخر.

مثال أخير من مسيرة العودة التي نظمها اللاجئون الفلسطينيون في الخامس عشر من أيار من العام الماضي، فقد كانت فكرةً جديدةً وغير مسبوقة وقويةً مما أدى إلى إنجاحها، لكن هذا النجاح الذي حققته لا يعني أنه سيتكرر في المرة القادمة إن لم تشهد تعديلاً وتطويراً، ففي مسيرة القدس الدولية رغم أنها كانت مختلفةً بعض الشيء عن مسيرة العودة إلا أن تشابه أسلوب المسيرتين جعلنا نشعر ببدء تململ في صفوف الناس، وبدأنا نسمع من يتساءل عن جدوى التوجه إلى الحدود كل مرة ثم العودة..هذه التساؤلات تفرض علينا تحدياً بضرورة تطوير الفكرة والبحث في أفكار جديدة لتغذيتها حتى لا تموت، لأن هذا التكرار يبث الإحباط في نفوس الجماهير ويفقدهم الإيمان بجدواها.

إذا كانت فكرة مسيرة العودة التي نظمت العام الماضي قائمةً على التظاهر على حدود فلسطين فإنها يجب أن يضاف إليها هذا العام الاعتصام ونصب الخيام والتدرج بالتصعيد في خطة شاملة وواعية وصولاً إلى فرض حالة حصار حقيقي على الكيان الصهيوني من قبل اللاجئين الفلسطينيين من كافة الجهات..

إن طبيعة الحياة التي نعيشها تفرض علينا الاستنفار والكدح الدائم والبحث عن أفكار جديدة لتظل هذه الحياة في حالة تقدم متواصل..

والله أعلم..

المصدر موقع global voice hall

الخميس، 22 مارس 2012

سوريا التي طالت محنتها..


الغاية الأساسية في حياة الإنسان هي تطهيره وتزكيته، وهو ما تنجح فترات المحن العصيبة في تحقيقه أكثر من فترات ما بعد النصر والإمساك السلطة..

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

لقد مر عام كامل على محنة الشعب السوري وهو يواجه أبشع أشكال التقتيل والتنكيل والإجرام من قبل العصابة المغتصبة للسلطة..

طالت المحنة وتعاظمت كما لم يحدث مع نظيراتها في الشعوب الأخرى حتى توشك الثورة السورية أن تسجل اسمها كثورة فريدة نسيج وحدها تجدر دراستها كظاهرة تاريخية نادرة تتجسد فيها معاني كسر حاجز الخوف وولادة الإنسان الجديد بعد عقود من الرعب والاستعباد، وتحرر الروح من أغلال العبودية، وحياة الشعوب من بعد الموت وبطلان السحر العظيم الذي استرهب به الناس..

في هذه الظروف العصيبة التي تعاظم فيها القتل والإفساد وهتك الأعراض ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً وبلغت القلوب الحناجر وظن الناس بالله الظنونا..يتساءلون أليس الله قادراً على أن ينصر عباده المؤمنين ويهلك القوم المجرمين..إذاً لماذا لا يفعل وإلى متى يسمح لهؤلاء الظالمين بالعلو والإفساد وسفك الدماء..ألم يقل الله ادعوني أستجب لكم"..هاهم عباده المؤمنون منذ أكثر من عام يتضرعون إليه قائلين "ياالله ما إلنا غيرك ياالله". أين الحكمة والعدل والحق في هذا الواقع الذي يسود فيه الظلم والطغيان!!

مثل هذه التساؤلات تنطلق بها الأفئدة المكلومة وتتولد تحت ضغط الألم والمعاناة التي يعايشها الإنسان فتحجب عنه رؤية الصورة الكاملة حتى لا يعود قادراً على إبصار ما هو أبعد من ساعته ويومه، فلا يرى الحدث في سياقه التاريخي أو الوجودي الكامل الشامل..

*********


لقد قرر القرآن أن هلاك الظالمين سنة وجودية لا تحويل لها ولا تبديل مثلها في ذلك كمثل قوانين الفيزياء والرياضيات، والتاريخ يؤكد هذه الحقيقة القرآنية فلم يذكر لنا يوماً أن دولةً أو حضارةً قامت على الإرهاب ومصادرة حرية الناس كتب لها البقاء، وكل أسباب القوة المادية من امتلاك الأسلحة والأموال ودعم القوى العظمى لا يحول دون سقوطها، لأن علة السقوط الأساسية هي علة داخلية وهي الظلم، وليست علةً خارجيةً تتوقف على طبيعة العلاقات الإقليمية والدولية، فلو دعم العالم كله النظام السوري فإن هذا لن يحول بينه وبين السقوط الحتمي ما دام ظالماً لشعبه..

لكن مقياس التاريخ يختلف عن مقياس الأفراد فما يراه الأفراد حقباً طويلةً لا يتعدى في مقياس التاريخ برهةً خاطفةً "ساعةً من نهار"، "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون"..والقرآن يحرض فينا التفكير الإيجابي: "أفرأيت إن متعناهم سنين ثم جاءهم ما كانوا يوعدون ما أغنى عنهم ما كانوا يمتعون"..إن علينا أن نتجاوز قسوة اللحظة الحاضرة ونستشرف المستقبل المفعم بالأمل..دعهم يتمتعوا سنوات أخرى ثم ماذا يكون..حين تأتي نهايتهم الحتمية فإن كل هذه السنوات التي نستعجل الآن انقضاءها ستبدو وكأنها لم تكن سوى لحظة خاطفة.

أضرب مثلاً قريباً القذافي الذي حكم البلاد والعباد اثنين وأربعين عاماً ظلم فيها وطغى وتجبر..كم في هذه الأعوام الطويلة من دماء سفكت ومن حقوق سلبت ومن دموع ذرفت ومن دعوات للمظلومين ارتفعت..لكن ماذا بعد هذه الأعوام الطويلة.. كيف ينظر الآن إلى عهد القذافي سوى أنه عهد بدأ وانتهى كأنه لحظة خاطفة من لحظات الزمن "كأن لم يغنوا بالأمس"، "هل تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً"..

لقد انقضى عام كامل وأهلنا في سوريا يعانون الويلات، لكن هذا العام هو بمقياس التاريخ برهة خاطفة، ماذا يساوي أن يمارس هؤلاء القتل والإفساد بضعة أعوام ثم تكون نهايتهم القاصمة ويطوى ذكرهم إلى الأبد؟؟

**********


لكن مع ذلك لماذا لا يعجل الله النصر لعباده وفق مقاييسهم البشرية، ولماذا يسمح لهؤلاء الظالمين بأن يتمادوا إلى الحد الذي يزرعوا فيه الموت والحزن في كل بيت قبل أن يرحلوا؟؟..

إن هذا يعيدنا إلى مناقشة أصل القضية لنفهم المراد الإلهي من الخلق..

إن تحقيق النصر هو غاية بشرية لكن هل هو غاية الله كذلك من خلق الوجود أم أن الغاية الإلهية تختلف عن غاياتنا البشرية؟؟

حين وعد الله عباده المؤمنين بالنصر لم يجعله الغاية الأساسية في هذه الحياة إنما هدفاً ثانوياً: "وأخرى تحبونها نصر من الله وفتح قريب"..أي إن المراد الأساسي لله عز وجل في هذه الحياة هو مراد آخر ولكنه سيمنحكم النصر كنتيجة ثانوية لأنكم تحبونه.. والنبي صلى الله عليه وسلم ذاته لم يكن يضمن أن يحقق النصر في حياته "فإما نرينك بعض الذي نعدهم أو نتوفينك فإلينا يرجعون"..

إن فلسفة الإيمان تقول لنا إن هذه الدنيا هي محطة عابرة للابتلاء والتمحيص وليست داراً للخلود والاستقرار، لذا فإن الهدف الإيماني هو هدف حركي وليس سكونياً، وهذه الحركية التي يسعى إليها الإيمان لا تتحقق ببقاء الناس على حالة واحدة بل بتعاقب كافة الظروف عليهم من نعماء وضراء، وخير وشر، ومن شأن سرعة تحقيق النصر وزوال المحنة أن يدفع الناس للسكون والاستقرار وهو ما لا يستقيم مع فلسفة الحياة..لذا فإن أوقات المحنة التي يعيشها البشر ليست أوقاتاً ضائعةً نستعجل ما بعدها، بل هي مقصودة لذاتها كما أن أوقات النصر والتمكين بعدها مقصودة أيضاً..

إن الحياة بوتيرة واحدة هي حياة مملة رتيبة لا تستقيم مع هدف الابتلاء الذي خلق الإنسان من أجله..

لقد خلق الله الموت والحياة ليبلونا أينا أحسن عملاً، ولا يتحقق الابتلاء إلا بتعريض الناس للشدة والبأس لتمييز معادنهم واستخراج أفضل ما فيهم، كما أن النار هي التي تميز الذهب من الشوائب العالقة..

إن الله لا يقصد تعذيب عباده، ولكنه يقصد أن يزكيهم ويطهرهم ويستخرج كوامن الخير في نفوسهم فيعرضهم للابتلاء والمحنة ليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين..

*********


ثم إن تحقيق النصر والإمساك بالسلطة هو مظنة فساد وطغيان "إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى"..فلو منح الله عباده النصر دائماً لبغوا في الأرض..لذا فإنه يربيهم ويطهرهم بأن يطيل أمد محنتهم للغربلة والتمحيص، ولو كان النصر سهل المنال سريع التحقق لركب موجة الثورة المنافقون والذين في قلوبهم مرض، ولكن إطالة أمد المحنة يحرم هؤلاء المتسلقين من فرصة الزعم بأنهم كانوا مع الثورة بعد انتصارها، فترك الأمور حيناً من الدهر في المنطقة الرمادية قبل أن تتبين العاقبة وترجح الكفة هو ضروري للتفريق بين أصحاب المبادئ وأصحاب المصالح، وهذا ما نجحت الثورة السورية فعلاً في تحقيقه، ففي الحالة المصرية مثلاً لم نستطع أن نكتشف حقيقة الموقف الأمريكي أو الروسي لأن سرعة انتصارها دفع هؤلاء إلى الكذب والقول إنا كنا معكم، لكن طول أمد الثورة السورية أحرج كل الأطراف، لأنهم من جهة لا يستطيعون أن يدعموا الشعب دعماً حقيقياً فلا ينتصر، ومن جهة أخرى لا يستطيعون أن يتخلوا عن النظام تخلياً كاملاً فيضر هذا بمصالحهم إن قدر له البقاء...

********


جاء في الحديث النبوي أن الله إذا أحب عبداً ابتلاه، وهذه الفترة القاسية من الابتلاء والتمحيص التي يمر بها الشعب السوري تهيئه لمواجهة التحديات العظيمة التي تنتظره بعد إسقاط النظام، لأن إسقاط النظام ليس هو الهدف، بل إن الهدف هو ما بعد ذلك، والقرآن يركز على من سيخلف فرعون أكثر من تركيزه على هلاك فرعون "عسى ربكم أن يهلك عدوكم ثم يستخلفكم في الأرض فينظر كيف تعملون"..إن هلاك فرعون آت لا ريب فيه ما دام ظالماً وفق سنن التاريخ، ولكن المهم ماذا أنتم صانعون حين تخلفونه في السلطة..

لقد طالت غفلة الشعوب العربية وموتها في ظل أنظمة الاستبداد عقوداً طويلةً. وانتقالها من زمن الاستبداد إلى زمن الحرية يتطلب مرحلةً انتقاليةً تمحص فيها هذه الشعوب وتتعرض لنار المحنة لصقل معدنها وإسقاط خبثها، والقضية ليست قضية إسقاط نظام بل هي قضية إحياء مجتمع، وهو ما يتطلب غربلةً تنفذ إلى نفوس القطاع العريض من الشعب لتهيئته لاستقبال شمس الحرية المشرقة..

وما يتعرض له الشعب السوري اليوم على قسوته وشدته إلا أنه يخلقه خلقاً جديداً، فقد نجحت هذه الثورة المباركة في بث روح جديدة تتوق للتضحية والفداء في سبيل نيل الحرية، وكلما طال أمد المحنة كلما قويت هذه الروح وعظمت، حتى أنها لن تقنع بإسقاط النظام، وستعبر هذه الروح عن نفسها في العهد الجديد بالانطلاق نحو تحرير الجولان، وربما المساهمة الأساسية في تحرير فلسطين.

إن الله يعد الشعب السوري لأمر عظيم، وكلما كانت المهمة أعظم كلما كانت الحاجة إلى تربية وإعداد أكبر..

*********


يقول الحق تعالى "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب"..دلالة هذه الآية واضحة بأن الشدة ليست هدفاً لذاتها ولكن الهدف هو التمييز بين الخبيث والطيب، وهذا ما حققته الثورة السورية بشكل نموذجي خلال عام من عمرها فيصح أن نقول إن الثورة السورية قد نجحت حتى قبل أن يكتب فصلها الأخير، فكم من الأوهام تعرت، وكم من السوآت افتضحت بفضل هذه المحنة التي يتعرض لها أهلنا في سوريا..

لقد أسقطت هذه الثورة المباركة الكثير من الخبث وأعلمتنا الصادقين من الكاذبين، فتساقط أتباع النظام في الداخل من مثقفين وفنانين ووعاظ سلاطين وظهر نفاقهم وافتضح عوارهم، وسقطت أسطورة ما يسمى حزب الله سقوطاً مدوياً وسقطت معه إيران ومشروعها الطائفي العنصري الخبيث، وسقطت روسيا والصين أخلاقياً وتبين للناس مدى تجردهم من كل قيمة إنسانية، وأن حرية الشعوب وكرامتها لا تعني شيئاً أمام جشعهم وحساباتهم السياسية الضيقة، وسقط أيضاً الغرب الرسمي واتضح مدى خبثه وكذبه في ادعائه حماية الديمقراطية وحقوق الإنسان، فلو كان هذا الغرب جاداً في إسقاط نظام بشار الأسد لفعل هذا منذ البداية، ولكنه لا يدافع عن حقوق الشعوب إلا بالكلام بينما يترك الفرصة للنظام ليفتك بشعبه دون محاسبة أو معاقبة جادة، وسقط قبل ذلك وهم ممانعة هذا النظام لإسرائيل، فرأينا إسرائيل أحرص الأطراف على إبقاء هذا النظام وحمايته من السقوط، فيا لفضيحة نظام يزعم الممانعة بينما العدو هو أحرص الناس على بقائه....

كيف كنا سنعرف كل هذه الحقائق الصادمة لولا المحنة السورية؟!..

إنه لو لم يكن هناك من فائدة لهذه المحنة إلا بتعرية كل هذا القدر من الأوهام لكفاها شرفاً وفخراً فجزى الله الشدائد كل خير عرفت بها صديقي من عدوي..

من سنن الله عز وجل الثابتة في الوجود أن يحق الحق ويبطل الباطل، وهذه هي فلسفة التاريخ أن يسير في اتجاه إحقاق الحق وإبطال الباطل..وإحقاق الحق يكون بتثبيته وإظهاره وتعريف الناس به بينما إبطال الباطل يكون بتعريته وإسقاطه وفضحه، والله عز وجل يغار على الحق فيأبى إلا أن يظهره ولا يريد أن يظل الناس مخدوعين إلى الأبد بالأوهام فيسير الأحداث وفق حكمته البالغة لتكشف الخداع وتثبت الحق وحده وتسقط ما عداه، لذا فإن الأوهام التي أسقطتها الثورة السورية كان لا بد أن تسقط حتماً مقضياً، ولو لم تكن الثورة السورية لساق الله حدثاً آخر ليضع حداً لغفلتنا وأوهامنا، ويعرفنا بالحقائق المغيبة..

***********


إن من أهداف المحنة أن يستثير الله كوامن الخير في نفوسنا..فقد سبق في علمه أن هناك من عباده من في أعماقهم بذرة خير كامنة لم تظهر للعيان، فيأبى بعدله ولطفه ورحمته إلا أن يسوق الأحداث لتظهر هذه البذرة "يابني إنها تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله".. وكما قال أحدهم: الناس في العافية سواء فإذا ابتلوا تمايزوا..والابتلاء هو الذي يظهر ميزات الصادقين ونفائسهم، ولولا هذه الابتلاءات لما عرفنا للصادقين أقدارهم، ولما استطعنا التفريق بين بلال بن رباح وأمية بن خلف، أو بين عمر بين الخطاب وعمرو بن هشام..تخيلوا لو لم تكن هناك بعثة ورسالة وإيمان وابتلاء، ودرس أحدنا تاريخ العرب في تلك المرحلة كيف كان سيتحدث عن محمد أو أبي بكر أو عمر أو بلال؟؟ كان سيضعهم في قالب واحد مع أبي لهب وأبي جهل وأمية بن خلف..ويتناول حياتهم الثقافية والاجتماعية وملابسهم وعاداتهم وتقاليدهم؟؟

لكن قيمة الابتلاء أنه يعرفنا بالخبيث من الطيب وينزل الناس منازلهم..

يتحدث القرآن عن هذه الفائدة من فوائد الابتلاء فيقول: "وتلك الأيام نداولها بين الناس وليعلم الله الذين آمنوا ويتخذ منكم شهداء"، وعلم الله يعني أن يقيم الحجة على الناس في أنفسهم وأن يظهر هذه الحقائق للناس، وإلا فهو يعلم ذوات صدورهم حتى دون الحاجة إلى اختبارهم..

لقد علم الله أن له صفوةً من عباده في بلاد الشام لكن فضلهم مغمور بين الناس فأراد أن يظهر فضلهم ويعلي ذكرهم في الأرض فساق هذه المحنة لتستثير معادنهم وتخرج خير ما عندهم ولتظهره للعيان فظهرت نماذج التضحية والفداء والشهادة التي تستحق الفخر والثناء مما لم نكن نتوقع أن مثلها موجود بيننا. وهكذا فإن المحن هي التي تظهر معادن الناس وتستفز الخير في نفوسهم وتسقط عنها الخبث والزيف..

**********


إن مشاهد المأساة المروعة القادمة من سوريا زادتنا إيماناً بغياب العدالة الكاملة في هذه الدنيا، وأن هناك حاجةً ملحةً تفرضها فطرتنا الإنسانية لعالم آخر تتحقق فيه عدالة مطلقة توزن بمثاقيل الذرة والخردل، ومهما اقتربت البشرية من العدالة فستظل ناقصةً وسيظل البشر عاجزين عن إنصاف كل مظلوم، فكل قوى الأرض لن تنجح في مسح دمعة أم ثكلى بأبنائها، وحتى لو قتل بشار ألف قتلة فلن يشفي قتله غليل أم واحدة فقدت فلذة كبدها، وحتى لو تمكنت البشرية يوماً ما من تحقيق العدالة الكاملة فإنها لن تستطيع أن تستعيد حقوق من ظلموا عبر تاريخ البشرية الطويل..

إن الإيمان باليوم الآخر يبدو ضرورياً لإضفاء الطمأنينة والرضا على نفوس المعذبين في الأرض، وإلا فهي العبثية واللا معنى والجحيم..

إننا مؤمنون يقيناً بحتمية انتصار الشعب السوري على العصابة الظالمة الفاجرة، ولكن حتى يحدث هذا، فإن من دونه فوائد عظيمة للمحنة جديرة بأن نتأملها فتمنحنا الثقة والرضا..

"لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم"..

**********

تعقيب وإضافة:

علق أحدهم منتقداً مقالتي بأن نظرية الابتلاء هي نظرية ساذجة تهدف لتخدير العقول، وأنها تحولت للإجابة على كل كارثة، فماذا فعل الرضيع مثلاً في بابا عمرو وغيرها وهو بعد لم يتعرف على الكون وآلهته حتى يبتلى ويحذف كاملاً من الوجود!!...

وردي على هذا التساؤل أن إيماننا بالقدر وبالابتلاء يأتي في سياق إيجابي وليس سلبياً، فهو يأتي في الدائرة التي لا يملك البشر أن يتدخلوا فيها ويغيروها، ولا يأتي بديلاً عن العمل والسعي، وتبريراً للفشل والقعود..ففي ظل نظرية الابتلاء فإن على الإنسان أن يسعى بكل طاقته وجهده وأن يعمل فكره وإبداعه لتحسين واقع البشرية، ولكن حين تنزل فاجعة رغم كل هذا السعي والجهد كأن يقتل طفل رضيع مثلاً فإن الناس سينقسمون حينها إلى فريقين: فأما الملحدون فسيقولون إنها العبثية واللا معنى وسيتذمرون ويضجرون، وأما المؤمنون فسينقذهم إيمانهم بأن يتذكروا أن هناك رباً رحيماً حكيماً هو الذي يدبر الأمر، وسيوظفون هذه المحنة القاسية توظيفاً إيجابياً بأن يستحضروا بأن الله قد ابتلاهم ليختبر صبرهم وسيجزيهم على صبرهم وسيعوضهم خيراً، وحينها سيضفي عليهم هذا الإيمان رضاً وطمأنينةً..

أي إن الإيمان مفيد حتى بالمقياس النفعي البراغماتي الخالص، لأن هذه المآسي تقع في كلتا الحالتين سواءً آمنا بالإله أم لم نؤمن به..والملحد والمؤمن كلاهما ستناله مصائب الحياة لكن أحدهما سيسخط فيكون عليه السخط والآخر سيرضى فسيكون له الرضا..إننا بإيماننا بالابتلاء أو عدم إيماننا لا ننشئ واقعاً جديداً بل نغير نظرتنا تجاه هذا الواقع الموجود أصلاً رضاً أو سخطاً..

في محنة الشعب السوري فإن الحديث عن الابتلاء وفوائده لا يقصد شرعنة الظلم الواقع والسكوت عليه، بل يجب السعي بكل طريقة إلى الخلاص منه في أسرع وقت، ولكن حين تقع المأساة ولا بد، ويستحيل استرداد الأنفس التي أزهقت، فإن الإيمان يسعفنا بأن يمنعنا من الانهيار..

إن الإيمان بالقضاء والقدر يعني الرضا بما حدث فعلاً ولم يعد هناك من وسيلة لرده، فهو يفيد في التعامل مع الماضي، أما المستقبل الذي لم تستبن لنا ملامحه بعد فصياغته متروكة لجهودنا البشرية، ونحن الذين نقرر أقدارنا المستقبيلة بجهدنا وسعينا..

"وأن ليس للإنسان إلا ما سعى"

والحمد لله رب العالمين..

المصدر إيلاف مع الإضافة

الجمعة، 24 فبراير 2012

المبادرة الفردية قوة للمجتمع
أحمد أبورتيمة
يوم الثلاثاء الماضي 21-2-2012 خرجت مع مئات الفلسطينيين في غزة للتظاهر نصرةً للشعب السوري في وجه الجرائم الممارسة ضده، وخرجت تظاهرة أخرى في الضفة لذات الهدف. وكانت التظاهرتان تعبيراً عن موقف أخلاقي مبدئي بعيداً عن أي حسابات سياسية أو حزبية.
لكن هاتين التظاهرتين بالإضافة إلى الهدف المباشر والمتمثل بالاستجابة لنداء الفطرة الإنسانية، وتلبية الواجب الأخلاقي والديني بنصرة المظلومين في كل مكان استطاعتا تحقيق فائدة أخرى لا تقل أهميةً عن الهدف المباشر..
هذه الفائدة الأخرى تمثلت في كسر حالة الجمود، والاستقطاب الحزبي في الساحة الفلسطينية، والتي عطلت العمل الشعبي الحر، ورهنت أي تحرك على الأرض بقرار من أحد التنظيمات ، فالمنتمون إلى الأحزاب المختلفة لا يتحركون إلا بقرار تنظيمي، فلا ينظرون إلى طبيعة النشاط ورسالته، بل ينظرون إلى الجهة الداعية إليه.
التظاهرتان جاءتا مخالفتين لهذا النمط السائد إذ إنهما كانتا بعيدتين عن أي اعتبارات تنظيمية، وكان المبادرون للدعوة والتحشيد لهما مجموعة من الشباب الذين حرروا أنفسهم من القيود التنظيمية والحسابات السياسية، ولم يكن تحركهم إلا بدافع أخلاقي وإنساني خالص.
ليس من الشائع في الساحة الفلسطينية القيام بمبادرات شعبية حرة إذ أن هيمنة الاستقطاب التنظيمي في هذه الساحة قد أضعف كثيراً من مثل هذه المبادرات وأعطى التنظيمات وحدها فرصة احتكار المشهد وتصدر الواجهة وقيادة الأنشطة.
أدى هذا الاستقطاب الحزبي الحاد إلى نتائج وخيمة، فعطل الطاقات الفاعلة في المجتمع، وأمات حيويته، وأفقد أبناءه روح المبادرة، فلم يعد الإنسان في ظل هذه الأجواء الحزبية حراً في تفكيره ومبادرته، بل ألغى شخصيته وأغمض عينيه وسلم عقله لأحد التنظيمات ليفكر بالنيابة عنه، فهو في انتظار توجيه من التنظيم حول ماذا يفعل وماذا لا يفعل..
هذا الواقع أضعف المجتمع وألحق ضرراً فادحاً به لأنه حرمه من إمكانيات أبنائه وأفكارهم، وحصره في حدود حزبية ضيقة، فلم يعد مجتمعاً ثرياً بالأفكار نابضاً بالحياة، يشيع فيه تبادل الآراء وتلاقح الأفكار، ويستطيع فيه المبدعون تحقيق أنفسهم، إنما تحول إلى مجتمع راكد أشبه بالأموات يقتله الروتين والتكرار، وتطغى عليه الأساليب التقليدية دون إبداع أو ابتكار، ويسير فيه الناس في اتجاه واحد سيراً أعمى في ظل غياب الروح النقدية التجديدية.
لم يكن الضرر الناتج عن الاستقطاب الحزبي قاصراً على أفراد المجتمع وحسب بل إنه طال حتى التنظيمات ذاتها، لأنه أضعف قدرتها على المناورة السياسية، فطبيعة التنظيمات تحتم عليها أن تكون محكومةً بقيود وحسابات كثيرة فتكون حركتها بطيئةً ثقيلةً..على خلاف الأفراد الذين لا يقيدهم ما يقيد الجماعات فحركة الأفراد أسرع وأكثر مرونةً وأقرب إلى العفوية والتلقائية من حركة الجماعات والدول، فهناك مساحة يستطيع الأفراد أن ينجزوا فيها ما لا تستطيع الجماعات الكبيرة بكل إمكانياتها وعناصرها أن تنجزه.
لقد تفطنت الثقافة الغربية بذكائها إلى هذه الميزة التي يتمتع بها الأفراد فعملت على تعزيز المبادرة الفردية، وتشجيع الأفراد على الإبداع والخروج عن التقليد مما يعود في نهاية المطاف بالنفع على عموم المجتمع، لذلك نرى أن الحراك الاجتماعي في المجتمعات الغربية أكثر مرونةً من مثيله في المجتمعات الشرقية، وأنها تتقدم بخطىً أوسع لأن أي فرد مبدع يمتلك فكرةً يستطيع في ظل أجواء الحرية والتقدير التي يتمتع بها أن يدعو لفكرته ويحشد لها الأنصار حتى تتحول إلى تيار اجتماعي واسع فتترسخ هذه الفكرة في المجتمع وتتحول إلى قرار سياسي..
إن قدرة الأفراد على التحرك في المساحة التي تتقيد فيها التنظيمات يمنح التنظيمات ذاتها-لو أنها أوتيت مرونةً في التفكير وخروجاً من القالب الجامد الذي حشرت نفسها فيه- القدرة على استثمار هذه المبادرات الفردية إيجابياً فتستفيد منها بإيجاد هامش للمناورة، ولا تنظر للأفراد بأنهم أعداء للتنظيم إن أعلنوا عن شخصيتهم ورفضوا الذوبان في قالبه.
إن على التنظيمات أن تحرر نفسها من الجمود، وأن تخرج من عباءتها الضيقة فتعلم أن المجتمع أكبر من أي تنظيم مهما علا شأنه، وأن المجتمعات تستعصي على كل محاولات التذويب والاحتواء، وقيمة المجتمعات ليست في أحاديتها، بل في تنوعها وصخبها الفكري والسياسي، فالتنوع قوة للمجتمع لأنه يجعله مجتمعاً نابضاً بالحياة مرناً يدرك التغيرات سريعاً ويؤقلم نفسه معها.
العلاقة بين المبادرة الفردية والعمل التنظيمي هي علاقة تكاملية لا تصادميةً. والأحزاب في وطننا العربي مطالبة بإدراك طبيعة هذه العلاقة، فكون الفرد منتمياً لإحدى الأحزاب لا يلغي شخصيته فلا يتحرك إلا بقرار تنظيمي، ولا يحوله إلى آلة صماء يتبع الحزب على غير بصيرة، ويتبنى كل أفكاره دفعةً واحدةً دون نقد ومراجعة، بل يظل له تميزه الفردي وشخصيته المبدعة، ومساهمته على أرض الواقع التي يتقدم بها المجتمع ويتطور مما ينعكس على التنظيم ذاته بالنفع على المدى البعيد.
قيمة تظاهرة الثلاثاء أنها تعتبر من المرات القليلة في الساحة الفلسطينية التي تنظم فيها تظاهرة خارج عباءة التنظيمات حيث كان المبادر إلى هذه الدعوة نشطاء شباب تحركوا بدوافعهم الإنسانية الخالصة واستعانوا بالمواقع الالكترونية التفاعلية في الحشد، ودفعوا من جيوبهم الخاصة لتمويل هذه الفعالية، فلم يسع أبناء التنظيمات وكوادرها إلا أن يحترموا هذه المبادرة ويشاركوا فيها، مما يشكل انقلاباً في المعادلة فلم تعد التنظيمات بحساباتها المعقدة وحركتها البطيئة وحدها هي التي تقود الأفراد بل صار بإمكان الأفراد أيضاً بمرونتهم وقربهم من نبض الجماهير أن يبادروا فيحدثوا تقدماً في مسار التنظيم، دون أن تعيب هذه الأسبقية للأفراد التنظيم، فما التنظيم إلا نتاج عقول أبنائه، وكلما كانت حرية التفكير لأبنائه أوسع كلما انعكس ذلك على تقدم التنظيم.
إن تشجيع المبادرات الفردية فيه قوة للمجتمعات وتفجير لطاقاته الشبابية وتحرير له من حالة الجمود والاستقطاب.
والله أعلم..

السبت، 11 فبراير 2012

سأتظاهر نصرةً لسوريا

أحمد أبورتيمة

abu-rtema@hotmail.com

صدري يختنق..ضميري لم يعد يحتمل السكوت..المحنة التي يتعرض لها إخواننا في سوريا تعرينا جميعاً وتضعنا في مواجهة سافرة مع أنفسنا..هذا هو البلاء المبين..الثورة السورية لم تكن ابتلاءً لإخواننا في سوريا وحدهم بل هي محنة عامة للغربلة والتمحيص وليميز الخبيث من الطيب وليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين..

كان الله قادراً أن ينصر هذه الثورة منذ شهرها الأول، ولكن ثمة حكمة بالغة في إطالة أمدها لتتمايز الصفوف وليخرج الله ما في الصدور..كم من الحقائق تكشفت في عمر الثورة السورية وكم من الشعارات الزائفة تهاوت..

كانت هذه الثورة اختباراً لإيمان الشعب السوري فتبين الصادق من الكاذب، ورأينا من اختار الانحياز إلى الحق والعدل ومن اختار الاصطفاف إلى جوار نظام القتل والإجرام..

لكنها لم تكن اختباراً للشعب السوري وحده، بل كانت اختباراً لمن هم خارج سوريا أيضاً فتعرت حقيقة روسيا والصين وتكشف تجردهما من كل خلق وإنسانية، وتبينت حقيقة نفاق المواقف الغربية أيضاً وبعدها عن اتخاذ مواقف جادة لنصرة الديمقراطية.. كما انكشفت حقيقة مهزلة النظام الرسمي العربي كما لم يحدث من قبل، وسقطت أسطورة إيران وحزب الله سقوطاً مدوياً كما لم يحدث من قبل أيضاً..

هذه المحنة العامة لم تستثن أحداً حتى طالتنا نحن أيضاً..

نشعر بالحرج مع كل يوم وأسبوع وشهر ينقضي دون أن تحسم الثورة ونود لو أنها حسمت بسرعة فيرتفع عنا الحرج ونرجع إلى حالة الاستقرار..ولكن غاب عنا أن بقاء الأمور في الدائرة الرمادية حتى حين مقصود لذاته للاختبار والتمحيص..

إن علينا بدل أن ننتظر انقشاع الغمامة وجلاء الصورة، أن نسارع إلى الالتحاق بالصادقين، وأن نسجل موقف شرف قبل فوات الأوان..

هي محنة عظيمة تتطلب منا الاختيار بين السياسة وما تقتضيه من تجرد من الأخلاق والإنسانية أو بين الانتصار للإنسانية مع ما قد يحمله ذلك من مخاطر وصعاب..وإن وقت الاختيار محدود للغاية لأن كل دقيقة تمر في سوريا تعني مزيداً من الدماء والأشلاء والضحايا..

لقد أقضت سوريا مضاجعنا فما عاد في الوسع أن ننام نوماً هانئاً ونحن نرى مشاهد الموت المروعة لأطفالنا ونسائنا من هناك..

إن إنسانيتنا ذاتها في خطر، وعلينا أن نسارع لإنقاذ كرامتنا وليس لإنقاذ شعب سوريا وحسب..

إن كل ما تلقناه من دروس ومحاضرات حول المبادئ لم يعد لها قيمة إن لم تجد طريقها اليوم نحو العمل..

لأنني أنتمي إلى بني آدم قررت التظاهر نصرةً لمن ينتمون إلى بني آدم في سوريا..

أعتذر أن تكون كل هذه المقدمة السابقة لمجرد تظاهرة، لكن هذا هو جهد المقل فاعذرونا يا أهل سوريا..

لقد بادرت بنفسي لهذه الدعوة في غزة لأنني لا أريد أن يقال إن غزة لم تتظاهر نصرةً لسوريا، واخترت أن أدعو لهذه التظاهرة بنفسي لأنني أود أن يخرج الشعب الفلسطيني من حالة الاستقطاب الحزبي التي قتلت حيويته وعطلت طاقاته وقدراته وجعلته رهينةً للقرارات والاعتبارات الحزبية..

كان شعوري بضرورة إعادة الاعتبار للشعب وإعادة تفعيل الطاقات الشابة دافعاً لي بأن أتخذ هذا القرار بمبادرة شخصية وأن أعتمد وسائلي الخاصة في الحشد والتحضير..

يسألني الناس كم تتوقع أن يحضر هذه التظاهرة، فأقول لهم:ليس هذا مهماً.. المهم أن يكون هناك موقف لأعبر عنه حتى لو كنت لوحدي..كثيراً ما تراودني فكرة "تظاهرة الفرد الواحد"..فلا يقاس نجاح التظاهرة بعدد من شاركوا فيها، بل يقاس بأن يكون هناك موقف للتعبير عنه حتى لو كان الفرد لوحده.

في قرآننا نجد إعلاءً لقيمة الموقف الفردي حيث يخلد القرآن مواقف لأفراد كانوا وحدهم في مواجهة التيار الاجتماعي الجارف، ومع ذلك يخلد القرآن مواقفهم ليكون في ذلك عبرة لنا بأن نثق بفرديتنا وألا ندع تيار المجتمع يجرفنا ويلغي شخصياتنا، فمؤمن آل فرعون الذي يفرد القرآن سورةً كاملةً تتحدث عنه كان فرداً ، ومؤمن آل ياسين الذي جاء من أقصى المدينة يسعى كان فرداً ، وإبراهيم كان وحده ومع ذلك وصفه القرآن بأنه أمة "إن إبراهيم كان أمة"...

إن المجتمعات تنتظر من يكسر جدار الخوف ويأخذ بزمام المبادرة لتتبعه، ونسأل الله عز وجل أن يكتب لنا أجر السبق فيحرك بنا ركوداً ويجعلنا سبباً في الحياة بعد الموت..

تفاصيل فنية حول التظاهرة:

ستنطلق التظاهرة يوم الأحد 12-2 الساعة الحادية عشر صباحاً من أمام مقر المجلس التشريعي متجهةً صوب مقر الأمم المتحدة خلف قصر الحاكم..

نرجو من الراغبين في المشاركة أن يحضروا معهم الأعلام السورية-أعلام الثورة-والأعلام الفلسطينية، والشعارات المساندة للثورة السورية..

نؤكد على الطبيعة الشعبية الخالصة لهذه التظاهرة وبعدها عن أي تأطير أو تحزيب وبأنها ستتم بجهود ذاتية محضة، كما ننبه إلى أنه سيكون هناك تغطية إعلامية للتظاهرة من قبل عدد من الفضائيات..

نرجو من الإخوة القراء من غزة عدم الاقتصار على القراءة أو التعليق وإنما ننتظرهم في الموعد أن ينزلوا إلى الميدان..

والله الهادي إلى سواء السبيل..

الجمعة، 10 فبراير 2012

الثورات العربية مؤامرة!!

أحمد أبورتيمة

يقول المنهزمون نفسياً إن كل ما يشهده الوطن العربي مخططات أمريكية، وإن أمريكا هي التي تصير الأحداث فتؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء، وإن أمريكا قد أحاطت بكل شيء علماً، فلا يعزب عنها مثقال ذرة في الأرض، وما من غائبة إلا تعلمها أمريكا، وإليها يرجع الأمر كله، ولا يكون إلا ما تريد، فكل ما أرادته فهو كائن، وكل ما هو كائن فقد أرادته "سبحانه وتعالى عما يشركون"..

فإذا سألتهم ما هي مصلحة أمريكا في التخلص من أنظمة موالية لها وترك زمام الأمور في يد الشعوب وما قد ينجم عن ذلك من انتخابات تأتي بأنظمة معادية لأمريكا..تلعثموا في الإجابة..فمنهم من أجاب إجابةً تبدو منطقيةً في ظاهرها، ومنهم من قال: لا ندري..المهم أنها مؤامرة أمريكية..

فرضية المؤامرة التي يعتمدها هؤلاء لا تستند بالضرورة إلى الأدلة والشواهد المنطقية، فهناك حكم مسبق قد استقر في دائرة لا شعورهم أن كل ما يحدث في وطننا تقف وراءه أيد خارجية، وهذا الحكم اللا شعوري هو الذي يوجه تفكيرهم، فلا يرون الأمور إلا من خلال منظار قاتم..

التحليل السيكولوجي لأصحاب هذه النظرية هو أن طول أمدهم بالهزيمة قد شوش صفاء تفكيرهم حتى صاروا عاجزين عن تخيل أي نصر أو نجاح، فإذا حدث أن انتصرت الأمة في موطن من المواطن صرفوا هذا النصر عن ظاهره واجتهدوا في تأويله والتنقيب في خفاياه حتى يظهروا الجانب السلبي له، وهم حين يفعلون ذلك يظنون أنهم قد أوتوا من الذكاء ما لم يؤتَه الآخرون، وأنهم قد تفطنوا إلى حقائق الأمور بينما غيرهم سذج أغرار قد انساقوا وراء العاطفة ولم ينفذوا من ظاهر الأحداث إلى باطنها..فإذا رأوك فرحاً بسقوط أحد أنظمة الاستبداد عكروا عليك فرحتك قائلين: لا تفرح فإن ثمة مؤامرةً..وإن كل ما يحدث هو مخطط محكم منذ عشرات السنين حاكته أمريكا والصهيونية والماسونية والامبريالية العالمية..

يصل الهوس بأصحاب نظرية المؤامرة إلى درجة جنونية لا يستقيم معها عقل، فيخرجون أمريكا من دائرة البشرية إلى دائرة الألوهية ويصورونها كما لو أنها تملك أن تتحكم في كوامن الصدور، فأمريكا هي التي أخرجت الثمانية مليون مصري من بيوتهم إلى الشوارع ليهتفوا بسقوط مبارك، وأمريكا هي التي أنجحت الإسلاميين في انتخابات تونس ومصر، وكأن أمريكا تملك قوةً خارقةً تمكنها من أن تنفذ إلى قلوب صفوف الناخبين وتوحي إليهم بأسماء القوائم التي صوتوا لها..

لقد كبلت الهزيمة النفسية هذا الفريق حتى أقعدتهم عن بذل أي جهد للانعتاق من الأغلال التي في أعناقهم،

وأفقدتهم الثقة بأنفسهم وبشعوبهم وأمتهم فصاروا يعبدون أمريكا من دون الله وسلموا أمرهم كله إليها، وقعدوا عن بذل أي جهد نحو التغيير والإصلاح لقناعتهم بأنه لا يمكن مواجهة أمريكا والتغلب عليها..

هذه الثقافة الانهزامية هي التي تصنع الهزيمة، فقوة أمريكا هي في نظرتنا إليها قبل أن تكون فيما تمتلكه من سلاح وعتاد، وضعفنا ناتج عن ضعف ثقتنا بأنفسنا، وليس عن ضعف ما نمتلكه من طاقات كامنة، وهذا الفريق قد حبس نفسه في صندوق من الأفكار السلبية السوداء لا يتجاوزه فهو لا يرى في الحياة من حوله أي فرصة نجاح أو بارقة أمل فيظل متخبطاً في ظلمات الهزيمة والفشل..

لا ننفي وجود مؤامرة من أعدائنا تستهدف إبقاءنا في ظلمات التخلف والجهل، لكن الفرق بين نظرتنا و نظرة هذا الفريق هو أننا نضع معرفتنا بهذه المؤامرة في سياق إيجابي فنرفع من مستوى اليقظة والحذر، ونضاعف جهدنا الفكري والبدني حتى نفشلها، لكن ذلك الفريق يتخذ من هذه المؤامرة المفترضة ذريعةً لتعطيل قدراته ولتعميق حالة اليأس بين الناس، والتخاذل عن أي عمل أو جهد..

في الوقت الذي نؤمن فيه بوجود هذه المؤامرة فإننا نؤمن أيضاً بقدرة الشعوب، فكما أن أعداءنا يخططون، فإن في شعوبنا قدرةً أيضاً على التخطيط والانتصار، فأمريكا لا تملك كل الأوراق حتى لا يكون إلا ما تريد..

صحيح أن أمريكا تحاول بكل جهد استغلال واقع ما بعد الثورات في حرف هذه الثورات عن أهدافها، ولكن هذا لا يعني أنها هي التي صنعت الثورات ابتداءً..وما تفعله أمريكا لا يزيد عن كونه ركوباً للموجة ومحاولةً لتوجيه الأحداث في الاتجاه الذي يخدم أهدافها، واللوم يقع علينا أننا تركنا الساحة فارغةً ولم نبادر للعمل في الاتجاه الذي يحقق أهدافنا..

ثار غضبي على أحد هؤلاء المنهزمين نفسياً حين قال: إن نتائج انتخابات ما بعد الثورات هي مؤامرة بريطانية، وإن أكثر قادة الإخوان كانوا يقيمون في بريطانيا، وهي التي أسست جماعتهم..قلت له: إن أصحاب التضخيم الإعلامي يستغلون جهلنا وزهدنا بالقراءة ليحشوا في عقولنا ما يريدون..إنك لا تعرف شيئاً عن ظروف نشأة جماعة الإخوان المسلمين وأنها جاءت استجابةً لتحد حضاري، وقد كان مبدأ نشأتها في مصر على يد حسن البنا من الإسماعيلية..

ثم قلت له:هب أن كل ما يحدث في الوطن العربي هو محض مؤامرة غربية..لماذا لا نكون أذكى منهم فنبحث في واقع ما بعد الثورات -التي هي مؤامرة حسب وجهة نظرك- عن الفرص الإيجابية التي تتيحها لنا مثل سقوط جدار الخوف، واستعادة الناس ثقتهم بأنفسهم فنستغل هذا الواقع الجديد في توجيه هذه المؤامرة في اتجاه معاكس يعود بالنفع علينا، وبذلك نقلب السحر على الساحر ويحيق المكر السيئ بأهله..

والله أعلم..

الثلاثاء، 31 يناير 2012

سوريا تعرينا

أحمد أبورتيمة

يقول الأمريكي إدوارد هوجلاند "أشعر بالخجل عندما أنظر إلى الماضي وأنا في السبعين من عمري، وأكتشف بأنني لم أتعرض للسجن ولو مرة واحدة في سبيل قضية ضمير".

ما أكثر قضايا الضمير التي تستحق أن نضحي من أجلها حتى نشعر بإنسانيتنا ونزكي أنفسنا من الدنس الذي علق بها ونحقق غاية وجودنا في هذه الحياة..إن مساندة المظلومين والمعذبين على وجه الأرض ضرورية من أجل أنفسنا حتى ننقذ أرواحنا قبل أن تكون من أجل نفع هؤلاء المظلومين والمعذبين..

كلما رأينا مشاهد الشبان الرائعين في سوريا الذين يستقبلون الموت بصدورهم العارية في سبيل الحرية والكرامة ونحن نتابعهم عبر شاشات الفضائيات وصفحات الانترنت بينما ننعم بالدفء ونتلذذ بالطعام والشراب في بيوتنا، وقد ألجمنا حتى عن مساندتهم بالكلمة فإن شعورنا بالعار يتضاعف، ونخشى أن نكون ممن "كره الله انبعاثهم فثبطهم وقيل اقعدوا مع القاعدين"..

يكاد عام ينقضي على ثورة الشعب السوري على واحد من أعتى أنظمة الاستبداد والفساد..ثورة قابلها النظام بكل ما أوتي من وسائل القتل والإجرام مما تعجز العقول عن تصوره..لكن هذا الشعب المؤمن الصابر الذي شهد له النبي محمد بالخير "الشام صفوة الله من بلاده يجتبي إليها صفوته من خلقه" ما كان له أن ينكص على أعقابه بعد أن عرف طعم الحرية التي حرم منها دهراً، وما كان له أن يرتد إلى الظلمات بعد أن لمح شعاع النور يأتي من الأفق. وضرب مثالاً سيخلده التاريخ للصبر والمصابرة والمرابطة..استثير مخزون الإيمان العميق في نفوس هذا الشعب الأبي فرأينا أبناءه يتدافعون نحو الموت باستبسال تعجز قوانين الفيزياء عن تفسيره، وارتقت الأرواح فلم تعد تأبه بالموت أو السجن في سبيل الحرية والانعتاق من أغلال العبودية..

تمضي الأيام وتنقضي الشهور وأصحاب الأخدود يراهنون على إرهاق الشعب بالقتل والإرهاب والنار ذات الوقود، لكن هؤلاء الصفوة المباركة قد عاهدوا الله ألا يروهم من أنفسهم ما يسرهم ويرضي فجورهم فيبدون جلداً عجيباً ويعضون على جراحهم حتى لا يرى هؤلاء الفجار منهم ضعفاً أو وهناً..يستمدون القوة من ذي القوة والجبروت بعد أن تخلى عنهم القريب والبعيد والشرق والغرب واستفرد بهم المجرمون تقتيلاً وتنكيلاً..

تكتسب المواجهة في سوريا أهميةً خاصةً تميزها عما سبقها من ثورات عربية فهي مواجهة تاريخية بكل ما تعنيه الكلمة وستكون نتائجها استراتيجية تقلب وجه المعادلة..ذلك أنها ليست مواجهةً بين الشعب والنظام وحسب، بل إنها مواجهة يتشارك فيها النظام البعثي وحزب الشيطان والدولة الفارسية مهمة قتل شعب يعبر عن روح الأمة التواقة إلى التحرر من كل أشكال الاستعمار..ويساند النظام بشكل غير معلن دولة بني صهيون لتصبح المعادلة وياللعجب..النظام السوري وإيران وحزبها وإسرائيل في خندق واحد..

لكم الله يا أهلنا في سوريا..لقد تخلى عنكم القريب والبعيد واستفردت بكم قوى الظلم العالمية في ميادين المواجهة..إنكم تخوضون ولا شك مهمةً صعبةً..لكننا نبشركم أن الله لم يختركم لهذه المهمة إلا لأنه يعدكم لأمر عظيم ويريد أن يصطفيكم من عباده..لا تجزعوا ولا تهنوا ولا تحزنوا..إنها معركة قاسية ولا شك..وربما طال أمد جهادكم وعظمت تضحياتكم ولكن النصر في نهاية الطريق أكيد، والزمن يعمل لصالحكم وليس لصالحهم..وفي اللحظة التي تنتزعون فيها النصر وهي آتية لا ريب فإن وجه التاريخ سيتغير وستغرب شمس المشاريع الاستعمارية التي تستهدف أمتنا ويشرق شمس الشعوب الحرة بصدقها ونقائها وبراءتها..

صحيح أن الثمن الذي تدفعونه باهظ..ولكن السلعة غالية..فالسلعة ليست حرية الشعب السوري وحسب بل حرية كل الشعوب العربية، وغروب شمس مشاريع الهيمنة والاستعمار وانعتاق الأمة من ذل القرون، وقد شرفكم الله بأن اصطفاكم دون غيركم لهذه المهمة العظيمة لتكونوا أنتم من يحمل اللواء، وأنتم من يحترق في سبيل أن يحيا الآخرون..وأعظم به من شرف!!

إن الله يصير الأحداث وفق قانون خاص ليبتلي عباده فيميز الخبيث من الطيب، وليعلم الذين صدقوا ويعلم الكاذبين "ما كان الله ليذر المؤمنين على ما أنتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيب".. وثورة سوريا كان لا بد منها وفق القانون الإلهي لتبدد الوهم وتفضح العوار، وتكشف الزيف، ولتمحص الذين آمنوا..

لقد حققت ثورة سوريا أهدافاً عظيمةً حتى قبل أن يأتي فصلها الأخير.. ولو لم يكن لهذه الثورة سوى ما حققته حتى الآن لكفاها بذلك فضلاً..فهي قد أسقطت الأوهام التي كانت تعشش في عقولنا، وعرفتنا الصادقين من الكاذبين، وأخرجت ما كان خبيء الصدور إلى العلن حتى لا يظل الناس مخدوعين إلى الأبد، وليعرفوا عدوهم من صديقهم، ولتوقظهم الأحداث على الحقائق المزعجة التي كان لا بد من معرفتها "ليحق الحق ويبطل الباطل"..

إن ثورة أهلنا في سوريا هي إعلان لانتهاء حقبة المشاريع الاستعمارية بشقيها الفارسي والرومي وإيذان بميلاد عصر الشعوب واستعادتها لدورها الحضاري المتميز..فقد كانت إيران تعمل بهدوء وخبث على التمدد في بلادنا والعلو في الأرض، وكانت كل الأحداث تصب في صالح مشروعها الاستعماري يساعدها في ذلك غباء أمريكا حين استدرجت إلى أفغانستان والعراق، فكانت إيران أكبر الرابحين من هذا الغزو، ووصلت فتنة الشعوب العربية بإيران وحزبها إلى ذروتها في حرب ألفين وستة..ولم يكن هناك ما ينغص على هذا المشروع إلى أن جاءت ثورة الشعب السوري الأبي لتقلب المعادلة على الرءوس، ولتبين لنا أن التناقض بين إيران ونظام سوريا وحزب نصر الله من جهة وبين إسرائيل ليس تناقضاً رئيسياً، وأنه في لحظة ما يمكن لإسرائيل أن تدعم هذا الثلاثي ليكونوا عوناً لها في وجه الشعوب التي تمثل دون غيرها التناقض الجوهري مع مشروعها الاحتلالي في فلسطين..

مع عظم مصاب إخواننا في سوريا إلا أننا مطمئنون بأن العاقبة لهم، وأنه لا خوف على مستقبلهم، لكن الخوف الحقيقي هو على أنفسنا إذ تركناهم وحدهم يواجهون كل هذا القدر من الأعداء دون أن نساندهم حتى بكلمة..لقد تردينا في وحل السياسة حتى ركنا إلى الذين ظلموا فتكاد نار الفتنة أن تمسنا وتحبط ما كان لنا من فضل في سابق الأيام..وغفلنا عن أن هذه الأحداث هي ابتلاء ساقه الله ليمتحن إيماننا، بل إنها من أعظم أنواع الامتحان يهون دونه ابتلاء السجن والقتل..

فلنتفقد مواقعنا جيداً لنرى أين نقف..وهل نجحنا في هذا الابتلاء أم أن إيماننا لم يكن بالقوة التي يمنحنا فيها الشجاعة لننتصر على الحسابات المحدودة من أجل مبادئ الحق والعدل..

هنيئاً لكم ياأحرار سوريا على ما اصطفاكم الله من أجله..وويل لنا إن لم نتدارك أنفسنا قبل فوات الأوان..

أختم بهذه النصيحة القرآنية: "يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و كونوا مع الصادقين"..

والله أعلم..

الاثنين، 23 يناير 2012

الدراما بحاجة إلى ثورة أيضاً

أحمد أبورتيمة

عجبت كيف يستطيع مسلسل تركي واحد أن يتسبب في خراب مئات البيوت، وكيف أن فناناً وفنانةً تافهين لا يملكان نصيباً من إيمان أو علم أو ثقافة يمتلكان هذه القدرة على التفريق بين المرء وزوجه، فينفر الزوج من زوجته لأنه لا يرى فيها أنوثة تلك الفنانة ونعومتها، وتنفر الزوجة من زوجها لأنها لا ترى منه دفء ذلك الفنان ووسامته، ليحمل هؤلاء الفنانون ومن شاركهم وعاونهم أثقالهم وأثقالاً مع أثقالهم ..

حين يقدر لي أن أتابع لقطات من بعض المسلسلات المصرية أشعر بالتقزز من هذا الحال المتردي للدراما العربية والتي جعلت كل قصتنا هي العلاقات الغرامية والخيانات الزوجية، وكأنه لا يوجد في الحياة الإنسانية ما يستحق التناول سوى هذه القصص..وربما اعتذر القائمون على هذا الميدان بأن هذه المسلسلات محاكاة للواقع، وهي حجة غير مقبولة، وذلك لأن الواقع فيه الكثير من القصص الإيجابية أيضاً، كما أن دور الدراما غير مقتصر على تناول الواقع كما هو بل إن عليه أيضاً تقديم الحلول والعلاج لهذا الواقع..

الدراما خطيرة وأثرها عميق، وخطورتها تتضاعف في المجتمعات العربية لأنها مجتمعات غير قارئة، فالأثر الذي يتركه مسلسل أو فيلم في المجتمعات العربية يفوق ذلك الأثر الذي يمكن أن يصنعه ألف كتاب ، وأهمية العمل الدرامي تأتي من كونه يصاغ بأسلوب قصصي محبب للنفوس فيتسرب أثره في العقول والقلوب بسهولة وينفذ إلى الأعماق، كما أنه يخاطب الجانب اللا شعوري في الإنسان فيترك أثره في سلوكنا الاجتماعي حتى دون أن نشعر بأن هذا الأثر هو من ذلك العمل..

وهذا ما صنعه المسلسل التركي سيء الذكر فحين يشاهد المواطن البسيط مشاهد لحياة حالمة من الحب والحنان والرومانسية في مسلسل حبك بعناية لا يجدها في واقعه العملي ينشأ عنده صراع نفسي بين الأمنية والواقع، ويؤدي هذا الصراع في نهاية الأمر إلى نتائج اجتماعية وخيمة.

ما دام للدراما كل هذه القدرة على التأثير فإن الحل لا يكون برفضها لأنها قد فرضت نفسها على أرض الواقع، بل بتحويل اتجاهها بما يعزز القيم الإيجابية في حياة الناس، وما أكثر القيم التي نحن بحاجة إليها سواءً كانت قيماً حضاريةً مثل قيمة المبادرة، وتشجيع الإبداع، ونشر ثقافة القراءة والعلم، واحترام الوقت، أو قيماً اجتماعيةً مثل الأخوة والتكافل الاجتماعي والصداقة والوفاء، وفعل الخير، أو قيماً وطنيةً تعزز الحس الوطني والقومي والتاريخي في نفوس الناس، كما فعل مسلسل التغريبة الفلسطينية الرائع الذي أخرجه المخرج السوري حاتم علي والذي قدم للمشاهدين لوحةً فنيةً رائعةً فصل فيها مراحل النكبة الفلسطينية، أو كما فعل المخرج ذاته في مسلسله التاريخي صلاح الدين الأيوبي، أو كما فعل المخرج الراحل مصطفى العقاد في فلميه الرائعين عمر المختار والرسالة، وفي الفيلم الأخير الذي يتحدث عن قصة الإسلام وكيف انبعث من الصحراء برسالة تحرير البشرية، فإن الإنسان لا يملك إلا أن يذرف دموعه وهو يتابع هذه التحفة الفنية الرائعة..

نحن بحاجة إلى مخلصين غيورين على أمتهم وأوطانهم في ميدان الدراما لما فيه من تأثير قوي في حياة الناس..لا يعني هذا أننا نطالب ب "بديل إسلامي" للدراما الحالية، لأن الناس غير مستعدة لأن تترك أعمالاً فنيةً أنجزها خبراء متخصصون في كل التفاصيل بدءً من حبكة القصة، وانتهاءً بالمؤثرات والتفاصيل الفنية الصغيرة، وأن يتوجهوا لمشاهدة أعمال مبتدئة تقوم على التجربة والخطأ، ولكننا ندعو القائمين على مجال الدراما بأن يستشعروا المسئولية الاجتماعية وهم يؤدون دورهم، وأن يكونوا عوامل بناء لا عوامل هدم، كما ندعو أصحاب الكفاءة إلى دخول هذا الباب وترك بصمات إيجابية وفق مبدأ "ما لا يدرك كله لا يترك جله"، واعتماد مبدأ التدرج في تحويل اتجاه الدراما حتى تصبح عنصراً مساهماً في نهضة المجتمع وتوافقه مع قيمه الدينية والثقافية والاجتماعية..

لقد دخل الإسلاميون باب الإعلام في السنوات الأخيرة، لكنه مع الأسف دخول كمي وليس نوعياً، فلا يزال يغلب على ما يسمى الإعلام الإسلامي جانب الوعظ والحديث المباشر دون الاستفادة من فنون الإعلام، حتى صدق فيه وصف فهمي هويدي بأنه إعلام إذاعي وليس إعلاماً تلفزيونياً لأنه لا يستفيد من تقنيات الصورة وقدرتها التأثيرية، فلو أننا حجبنا الصورة من أحد البرامج الدينية التي تبثها الفضائيات وحولناه إلى برنامج إذاعي لما تضررت الفكرة، لأنه لا يستفيد من تقنية الصورة التي يتيحها التلفزيون سوى بعرض صورة الشيخ والمكتب الذي يجلس عليه..

الدراما بحاجة إلى فن مختلف فقدرتها التأثيرية لا تأتي من التنظير المباشر للفكرة كما تفعل البرامج الوعظية، بل تقوم بتضمين القصة الدرامية لجرعات خفية من القيم والمبادئ التي نريد غرسها في نفوس المشاهدين، وإرسال رسائل غير مباشرة هي أبلغ من الرسائل المباشرة، فتتسرب هذه القيم إلى نفوس الناس بشكل سلس، وتنغرس في أعماق وعيهم دون فجاجة وإقحام..

والله الهادي إلى سواء السبيل..